معنى كلمة بري في اللهجة السودانية: الجذور اللغوية والاستخدامات الثقافية والاجتماعية
تندرج كلمة “بَرِي” ضمن المفردات العامية في اللهجة السودانية، وهي لهجة عربية شعبية منتشرة في معظم السودان. في الاستخدام السوداني، تعني “بري” نفي التهمة أو التبرؤ من فعلٍ معين، بمعنى «أنا بريء من هذا الشيء، وليس لي به صلة». مثلاً إذا قال أحدهم لأمٍّ أخرى: «أنتِ ضربتِ ابنتي!»، قد تردّ المُشتَكَاة كلمة “بري!” مُختصرة للإعراب عن إنكارها التام للاتهام. ولا تقتصر الكلمة على صيغة المفرد، فقد تسمع أيضًا عبارة “بري بري” مُكررة لتأكيد النفي بقوة. كما تشير إحدى المدوّنات الصحفية إلى أن «نون النسوة… يستخدمن كلمة (بري بري) وهي أداة نفي وإنكار»، مما يؤكّد ارتباط ”بري” بالسياق النسائي في الإنكار.
الجذر اللغوي وأصل الكلمة
لغويًا، ترجع “بري” في معناها إلى جذر (ب ر أ)، وهو نفس الجذر الذي تنتسب إليه كلمات مثل “براءة” و**“استبراء”**. وتؤكد المصادر الفقهية والعربية أن الاستبراء لغةً يعني «طلب البراءة». فقد ورد في تفسير مصطلحات الفقه: «(باب الاستبراء) هو بالمدّ لغةً طلب البراءة»، وهذا يطابق تمامًا معنى “بري” كطلب براءة الذمة. كما يشير معجم الفقه الإسلامي إلى أن أصل الاستبراء هو “البرء” بمعنى «خلوص الشيء عن غيره». وهذا يشير إلى أنه في الفصحى القديمة كان يعبّر عن التخلّص من الشبهة أو التهمة، وهو المفهوم الذي تحتضنه العامية السودانية عند قولها “بري”. بكلمات أخرى، من الناحية اللغوية الكلاسيكية الكلمة مشتقة من مفهوم ‘براءة الذمة’ وتنقيتها من الاتهام.
-
مرادفات قريبة: “بري” في هذا السياق تفيد «أنا بريء/لم أفعل ذلك»، وتُقرّب المعنى إلى عبارات مثل “تبرَّأ” أو “أبري نفسي” و الشهيرة ابرا واستبرا، أو حتى العبارة الفصحى “براءتي” (طلب إنكار التهمة).
-
مقابلات عربية: مقارنةً بلغةٍ عربية أخرى، قد يقول المتحدثون بالفصحى مثلاً «أنا بريء» أو «لم أرتكب هذا الفعل». أما في اللهجات السودانية فيُكتفى بـ “بري” كصيغة موجزة وقوية.
-
صِيغ أخرى: نسمع في بعض الأحيان “براكِ” أو “براي” باللهجة السودانية بمعنى «لوحدي/بنفسي»، ولكنها لا تمتّ بصلة معنوية لـ“بري”. المقصود هنا دائمًا نفي التهمة.
استخدامات كلمة “بري” في الحياة اليومية
تكثر حالات استخدام “بري” في حديث السودانيات اليومي خصوصاً في المواقف الصارخة. يأتي “بري” عادة كرد فعل سريع على اتهام أو ملاحظة تتعلّق بسلوك الشخص. فمثلًا:
-
في المنازل: إذا شكت أمٌّ من أمٍّ أخرى في تصرف ابنتها، فتقول لها «يا مدام انتِ ضربتي بنتي!»، قد ترد المُدَعَّاة عليها قائلةً بنبرة حازمة: «بري!» بمعنى «أنا لم أفعلها وأبرأ نفسي من ذلك».
-
في مجموعات النساء: أثناء النقاشات النسائية (العائلة أو الصديقات)، يُستخدم “بري” للدلالة على «ما في أثر لي في هذا الأمر، وأنا طاهرة الذمة». وقد تسمع المرأة ومرتين لجهر النفي: «… فأنا بري بري منك!».
-
تأكيد النفي: تكرار الكلمة (بري بري) يعزز معناه؛ فكما ورد: «نون النسوة… يستخدمن كلمة (بري بري) وهي أداة نفي وإنكار»، مما يجعل الرد أقوى وأوضح.
-
المزاح والتعابير: أحياناً يُقال “بري” بشكل ساخر أو مزاح بين الأصدقاء عند إنكار تهمة مبالغ فيها: «هو داير يسرق (أو يخطف)…؟ بري يا عم!» بمعنى «لا أبدا ليس لي ذلك».
بعبارة أخرى، “بري” تصبح صيغة موجزة للرد ببراءة صريحة. تترافق غالبًا مع تعابير وجه جادة ونبرة حازمة. ولا تُستخدم “بري” في العادة للدفاع عن الفعل الإيجابي، بل فقط لإنكار السلبيات المزعومة.
-
استخدامات شائعة لكلمة “بري”:
-
نفي التهمة: «قالت لي إنك شفتِ فلاناً تطاول على بنتها؟!» – «بري، والله ما حصل الكلام ده مني!»
-
التبرؤ الاجتماعي: عندما تنتشر إشاعة، ترد امرأة بـ “بري” لتؤكد أنها ليست متورطة.
-
طلب الاستفهام: في بعض المواقف قد تقال بنبرة استفهام: «بَري؟» لتعني «هل تقول إنك بريء تمامًا؟».
-
العامل الثقافي والقواعدي
ثقافيًا، تعكس كلمة “بري” جانبًا من الحس الاجتماعي في المجتمعات السودانية. فقد تولي الثقافة في السودان أهمية كبيرة لشرف الفرد ونقاء الذمة. وعندما يُشتبه في فعلٍ منظمٍ أو يوجّه اتهام، تعتبر البراءة من التهمة من المبادئ المهمة للحفاظ على الاحترام. كلمة “بري” تسدّ ثغرة الكلام السريع؛ هي تعبير مألوف ومباشر لرفض الإثم فوراً. هذا الاستخدام الخاص غالبًا ما يلحظه أفراد جيل الأمهات وفوق، خاصة في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء.
من الناحية النحوية، “بري” في اللهجة السودانية هي كلمة مستقلة (أداة نفْي/إنكار) وليست ضمن الأفعال المعتادة. فلا تأتي مصاحبة لأي ضمائر فعلية؛ بل تكتفي بالكلمة وحدها. ببساطة «أنا بريء» تتحول إلى «بري» تختصر المعنى كله. وعلى عكس اللغة الفصحى التي قد تتطلب فعلًا كاملًا (مثل «تَبَرَّأتُ» أو «لَسْتُ مذنبًا»)، تتعامل اللهجة السودانية مع “بري” كجزء مستقل من الكلام.
لا يوجد لهذه الكلمة قاعدة صرفية تقليدية في القواعد العربية الفصحى؛ فهي من مفردات العامية. لذلك، غالبًا ما تُردّ على “بري” بتقبيل في الجملة الأخرى أوبتعابير تأكيدية أخرى. ومع ذلك، تحتفظ الكلمة بضابط واحد من حيث الصيغة: غالبًا ما تُنطق بكسر الباء وتشديد الراء (بَرِّي).
أمثلة وجمل تطبيقية
لزيادة الوضوح، نستعرض هنا أمثلة واقعية على استخدام “بري” في محادثة سودانية عامية:
-
مثال (1):
-
الأم الأولى: «قالت لي أختكِ انتي مبيتِ في التلفون بدل ما تساعدي بنيتكِ في الواجب»
-
الأم الثانية (مندهشة): «بري! والله ما خليت بنتي تتكاسل، كان عندها كل ما تحتاج.»
في هذا المثال، استخدمت الأم الثانية “بري” لنفي التهمة سريعًا.
-
-
مثال (2):
-
الجار: «سمعت إنك أقمت حفلة ليلية في البيت بدون إذني!»
-
الجار المُتَّهَم: «بري بري، يا زول! أنا ما بعرف ليك صوت!»
هنا نرى استخدام “بري بري” لتأكيد الإنكار بشدة.
-
-
مثال (3):
-
صديقة: «قالت لي فلانة إنك دافعت عن فلان قدامها.»
-
أختها: «بري! ما جانا الزول ده أصلاً، ما عندي علم بأيّ قصة.»
استخدام “بري” كاعتراض سريع على معلومة غير صحيحة.
-
-
أمثلة عامية أخرى:
-
«بري أكلك إنك نايم، بتقوم تسرق الوهلة دي؟!» (للمزاح على الاتهامات غير المعقولة).
-
«قالوها ما معاك فرن؟ ردت: بري، كنا مستأجرين في الأصل.»
-
هذه الأمثلة توضّح كيف تعمل “بري” في الحياة اليومية: هي كلمــــة وجيزةٌ جدًّا لكنها تحمل المعنى كاملاً (تعبر عن ”استبراء“ أو ”تبرؤ“).
كلمات ومرادفات متصلة
في اللهجة السودانية، توجد بعض التعبيرات المماثلة أو المرادفة في المعنى:
-
“أنا بروح نفسي” أو “أنا أبري نفسي”: تعبيرات خليط بين الفصحى والعامية تعني «أتبرأ من ذلك»، لكنها أقل شيوعًا من “بري”.
-
“معليش” أو “ما حاصل حاجة”: عبارات عامية تستخدم للتجاهل أو التخفيف، لكن معناها أعمّ ولا تعادل “بري” تمامًا، لأن “معليش” لا تنفي التهمة بشكل كامل بل تؤجلها أو تهمشها.
-
“طاهرة” أو “نقية”: كلمات وصفية قد تقولها امرأة في محادثة رسمية للدلالة على براءتها، لكنها ليست بديلًا مباشرًا لـ“بري”.
-
“إنا غير ذنبي” أو “ما مديوني الذنب”: جمل تراثية قد تستعمل للإعراب عن نقاء الذمة، لكنها طويلة وغير مستخدمة في الكلام السريع.
بسبب صدور “بري” من نفس شجرة لفظية الـ“براءة”، فإن المرادف الحرفي الأقرب في العربية الفصيحة هو “البراءة”. لكن في العامية السودانية، تقتصر إبدالات الكلمات على الصيغ القصيرة والمباشرة. إذا رغبت امرأة سودانية في نطق جملة أطول، قد تقول «أنا لستُ مذنبة» أو «تبرّأتُ من الكلام ده»، لكن ذلك نادر مقارنة بالاستخدام المقتضب “بري”.
الخلاصة والنتائج
كلمة “بري” السودانية هي مثال بارز على أثر اللهجة المحلية في صياغة ألفاظ فريدة. تعبر الكلمة ببساطة وجلاء عن نفي التهمة وطلب البراءة من أي فعل ذنبي. تعود أصولها إلى الفعل العربي (برأ) و(استبرأ)، حيث كان يشير إلى الرغبة في تنقيص الشبهة عن النفس. على الرغم من بساطتها، فإن “بري” تحمل في طياتها ثقافة المجتمعات السودانية في الحفاظ على البراءة وحقوق الشرف.
في النهاية، نجد أن “بري” في اللهجة السودانية ليست مجرّد كلمة غامضة أو دعابة محلية، بل هي تعبير موجز مُكثف يدلُّ على إنكار واضح ومتأصّل في عمق اللغة العربية. إنها تذكير بأن الكلمات الشعبية قد تحمل معانٍ ثقافية وقانونية عميقة تجلّت عبر الاستبراء وطلب البراءة، وتكشف عن جانب من هوية السودانيين اللغوية والاجتماعية.