-->

الرندوك: لغة الشارع السوداني السرية وجذورها الثقافية

في السودان يُستخدم مصطلح «رندوك» (ويُنطق أحياناً «راندوك» أو «راندوق» أو «رندوق») للدلالة على نوع من اللهجة الشعبية الملتوية بين شباب الأحياء الشعبية. هذه الكلمة ليست من أصل عربي فصيح واضح، بل تمثل لغة غير رسمية خاصة، أُطلقت في إطار التواصل السري بين مجموعات مضطهدة وشباب فقير. ويُشير الباحث الإيطالي ستيفانو مانفريدي إلى أن «الرندوك» هو في جوهره لغة سرية قائمة على العربية طوّرها شباب المدن في شمال ووسط السودان . ويؤكد أن أهم وظيفة لهذه اللغة المشفّرة هي تعطيل فهم الكلام من قبل العامة (أي الطبقات المهيمنة)، وفي الوقت نفسه تعزيز هوية المجموعة الناطقة بها .

ما هو الرندوك وكيف نشأت تسميته؟

الرندوك ليس له وجود في قاموس العربية الفصحى، بل هو اصطلاح عامي متداول. يصف الكثيرون الرندوك بأنه «لغة شوارع» أو «لغة الشفّاهة» أي الأسلوب الخاص للكلام اليومي غير الرسمي بين الناس في السوق والحارة. فقد لاحظت وسائل إعلام سودانية أن هذه اللغة الخاصة «يستخدمها المشردون وبعض الشباب كلغةٍ سريةٍ بينهم» ، بمعنى أنها اتُبعت أساساً من قِبل فئات المهمشين. ويرجع الباحث مانفريدي تسمية الرندوك إلى قلب جزئي لحروف كلمة عربية قديمة هي «رطانة» (ruṭāna) . ففي العربية، تشير كلمة رطانة إلى «الكلام الغامض غير المفهوم» أو «لغة القبائل (غير العربية)»، وأحياناً تُرادف مصطلح الهراء والجعرانه . ومن هذا الاشتقاق ظهرت كلمة «رندوك» الحالية، وهي تحمل دلالة الغموض المُتعَمَّد للكلام.

البيئة الاجتماعية والرندوك في السودان

ينشأ الرندوك داخل الأحياء الشعبية والمدن السودانية الكبرى حيث تكاد تطغى التنوعات اللهجية والفقر. ففي مثل هذه الأزقة والشوارع (كما في صورة شارع بتوتايل قرب كسلا أعلاه) يتحدث الشباب بلغة خاصة لا يفهمها الآخرون. ويصفها الباحثون بأنها «لغة أسفل المدينة» ، إذ يستخدمها شباب المناطق الهامشية والفقراء في السودان دون خجل، مناشدين بعضهم بعضاً بألفاظ مختصرة. ويتداول أبناء هذه الأحياء تراكيب وكلمات عفوية مبهمة عبر تغيير مقاطع الكلمات وإعادة ترتيب الحروف أو زيادتها، مما يجعل معانيها غريبة وغير مفهومة للعامة . وباختصار، تطورت لغة الرندوك في مجتمعات بديلة داخل المدن، حيث أصبحت أداة للتواصل الخاص بين من تعاملوا معاً طويلاً، ولها وظيفة تشفير كلامهم أمام غيرهم .

خصائص الرندوك اللغوية واستعمالاتها

لغة الرندوك تتميّز عن العربية الفصحى والعامية السودانية بعدة خصائص شكلية ووظيفية:

  • التشفير وإخفاء المعنى: يستخدم متحدثو الرندوك تحويرات صعبة (مثل قلب الحروف أو حذف بعضها) على الكلمات العربية المعتادة ليبقى المعنى مبهمًا لغير المختصين . فالمقصود من ذلك «إنتاج خطاب سري في المجال العام» ، أي أن تكون الرسالة واضحة فقط لمَن يتحدثون بها.

  • دلالات شعبية ومألوفة داخلياً: تتشابه ألفاظ الرندوك مع اللغة العامية لكنها غالباً مجازية أو ساخرة. فهي تحمل إشارات ثقافية معروفة بين أهل الحي، وتكتسب طابعاً فكاهياً أو ساخراً بسبب تغييرها المنظم . فالزج بالمعنى عند تحوير الكلمة يجعلها غريبة الشكل لكنه معبرة داخل المجموعة المتحدثة.

  • تنوع بحسب المهنة أو المكان: لكل فئة أو مهنة اجتماعية في السودان «رندوكها» الخاص. فقد رُصد أن التجار في سوق الذهب مثلاً يستخدمون مصطلحات سرية لحماية معلوماتهم التجارية ، بينما يستخدم حرفيو المجال الصناعي تعابير خاصة بهم. ويلاحظ أيضاً استخدام الرندوك بكثافة في الفعاليات الشبابية والحراك الشعبي، حيث كتبت فيه بيانات احتجاجية لجذب الشباب معاً .

  • الوظيفة الاجتماعية: الرندوك ليست لغة رسمية وإنما صرخة تمرد ثقافي من طبقات المهمّشين. فقد ظهر جيل من الشباب يفضّلها على العربية الفصحى لكونها تشعرهم بأنهم ينتمون إلى بيئتهم الخاصة ، كما أنها أسهمت في تخطي حواجز تواصل بين جماعات شبابية متفرقة، فكونت بينهم رابطًا لغويًا فريدًا.

أمثلة شعبية في لغة الرندوك

من العبارة السابقة يتضح أن الرندوك قد تكون غريبة المضمون، لكن هناك أمثلة معروفة على بعض مفرداته ودلالاتها:

  • «فالصو»: كلمة شائعة في لغة الرندوك التجارية. يُطلقها التاجر عندما يشعر أن الزبون غير راغب بالشراء .

  • «الزولة دي حبة واحدة»: تعبير يُستخدم في سوق الذهب ليعني أن امرأة (الزولة) فقيرة، لديها قطعة ذهب واحدة فقط ولا تملك المزيد من المال .

  • أمثال علاجية وساخرة: يذكر حرفيون وأطباء أنهم يستخدمون عبارات مشفّرة عند التحدث عن المرض أو الوفاة، مثل قولهم «الزول ده عشَّق أو داير عمرة كاملة» لوصف المريض الذي فقد قدرته على الحركة، و«المكنة بطلت» للإشارة إلى وفاة شخص .

هذه الأمثلة تظهر كيف تندمج الروح الطريفة والتورية في مفردات الرندوك، بحيث تنقل معانيها الضمنيّة فقط لمن يعرف سياقها .

خاتمة: الرندوك ورواجها الثقافي

في الختام، يبرز الرندوك كظاهرة لغوية فريدة في السودان؛ فهو ليس مجرد لهجة بل نظام تشفير لغوي وصوتي أدى دوراً مهماً في التعبير عن الهوية الطبقية والنضال الثقافي لشباب المهمشين . وبفضل تحوّره الحيّ وتداوله بين الناس، صارت كلمة «رندوك» نفسها رمزاً لهذا التراث الشعبي المُبتكر. يتواصل الاهتمام بهذا الموضوع في الأوساط الثقافية السودانية، حيث يتبادل الناس شروحات وترجمات لعباراته الغامضة على الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي. إن الاهتمام المتزايد بمعرفة معاني الرندوك وأصوله يعكس فضول الأجيال الجديدة نحو ثقافة الشارع السودانية وحماستها للحفاظ على لهجتها المميزة، ويفتح نافذة لفهم عمق الصراع اللغوي بين الرسميّ والعاميّ في السودان .